مسؤولية تصميم مستقبل جديد للعرب
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟ مقال منشور
د. محمد الطيب قويدري
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟
الشعوب العربية تطالب بالحرية والديمقراطية في أوقات السلم والأمن والاستقرار، ولكنها سكتت طويلا عن ذلك منذ بداية ظاهرة “الاستقلال الوطني”،
ومن المعقول اليوم أن تسكت عن الطلب والإلحاح أكثر عندما تشم في كل مكان تقريبا رائحة الدماء وضجيج الحرب والقتال، وتُصدم بمناظر الخراب المتنوعة.
إن بعضا من الشعوب يكاد يستنكر كل طلب من هذا القبيل عندما يتذكر دروس وتجارب مؤلمة مر بها منذ وقت قريب، أو أنه ما زال يرى بعضها في بلاد العرب القريبة والبعيدة.
التحليل الموضوعي يكشف الفرق الواضح بين تجارب تناضل خلالها الشعوب وتضحي في سبيل أهداف ومبادئ تؤمن بها، وبين تنظيرات تستطلع وتطمح وترسم مخططات لآمال وأحلام مشروعة، تكتب من أجلها الأناشيد وتتغنى بها القرائح.
في الحالة الأولى تسري روح النضال مسرى الدماء والجوارح مهما كان موقع الفرد وقيمته ودوره ومستوى تأثيره.
وفي الحالة الثانية تتكون استجابة نفسية ووجدانية جماعية لأفكار ودعوات النخبة من المصلحين والزعماء، وشتان بين الحالين.
فالمرء يقود نفسه ويدفع غيره في الأولى، وينقاد طائعا أو حالما مستسلما في الثانية.
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟ بالعودة إلى المنتجات الثقافية العربية للعقود الأولى من القرن الماضي نلحظ الحماس الفياض عند العرب الذين نالت بلدانهم استقلالها، نكاد نرى مناظر الفروسية والبارود، ومهرجانات الغناء والرقص الشعبي، والصحافة والسينما والاستعراضات العسكرية والرغبة في خوض حروب لتحرير البلدان ونجدة فلسطين.
كان مظهر العرب يدل على ما يحلمون به من رقي وتفوق لا ما يملكونه فعلا من أسباب التمدن والحضارة. لقد كانت هناك لحظة من التاريخ شعر فيها العرب أنهم استعادوا ما فقدوه: حضارتهم وهويتهم.
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟ الماضي التاريخي يقول إن العرب تعرضوا لهجوم داخلي وآخر خارجي الأول من داخل العالم الإسلامي شنه الصفويون من جهة والسلاجقة والعثمانيون بعد ذلك…
والثاني شنه المسيحيون الغربيون باسم الصليبية ثم سلموا المشعل لقوى الرأسمالية الاستعمارية، ومن المنطقي أن تخرج الشعوب العربية المهزومة في الحالتين سياسيا وعسكريا منهارة اقتصاديا ومفككة اجتماعيا ومتلاشية ثقافيا، لكن الوضع كان أكثر تعقيدا من ذلك.
ومن منظور آخر لا يمكن إهمال الدور الكبير والحاسم الذي أداه الأكراد والأمازيغ والصقالبة، والزنوج وقد كانوا جزءا لا يتجزأ من كل مجهود لإحياء دور العرب والنهوض بثقافتهم ولغتهم وبناء دولهم الجديدة.
لأن الحراك الداخلي لم يكن كله ضد الوجود العربي أو يبني مصالح شعوب مسلمة مثل الشعبين التركي والفارسي على حساب مصالح العرب، بل كان هناك جدل بين دور نقيض ودور يؤدي وظيفة بناء ودفاع داخل الجسد العربي.
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟ تدل تقارير التنمية البشرية التي أنجزت في العقدين الأخيرة على ضعف يشمل معظم مؤشرات التنمية في البلاد العربية، من الأمية إلى الفقر، ومن اختلال المنظومات التعليمية والثقافية إلى اختلال مماثل في المنظومات الاقتصادية،
كل ذلك يدل على أن الجهد المبذول في التنمية لم يتجاوز بعد مرحلة محو آثار الاستعمار إلى مرحلة يمكن أن يوضع لها عنوان موضوعي كبير وذا دلالة مثل عنوان التقدم والتفوق.
هناك نجاح نسبي، وإنجازات كمية تدعمها الأرقام على مستوى الدول والبلدان، ولكن هذه الإنجازات تبقى متواضعة عندما نقيس مدى التناسب بين الآمال والأحلام والمطامح وبين الحقائق على الأرض،
ويتضح الخلل جليا عندما نقارن المجهود على المستوى العربي، والمجهود المماثل له على مستوى شعوب أخرى.
هل الخلل هو في الثقافة؟ أم في نظم التخطيط، أم في وسائل الإنجاز، أم هو في القيادات التي لا تستطيع ترجمة البرامج والإمكانات إلى منجزات ونتائج واقعية على مستوى المنافسة مع الشعوب الأخرى؟
لا تلام الشعوب بصورة مباشرة عن مسائل التسيير والقيادة، فهي ليست مكلفة بالتخطيط ولا باتخاذ القرار، ومستوى النضوج العقلي لدى شعوبنا يتبع مستوى تطور المؤسسات والمنظومات التعليمية والسياسية والمعلومات التي تبنى عليها القرارات في دولنا.
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟
في البلاد العربية كلها يقابل نجاح الفرد وقدرته على النبوغ والتفوق والاختراق، فشل على مستوى الفريق والجماعة لذلك ظل أداؤنا الجماعي بعيدا عن مستوى النجاح الفردي، المجتمع مسؤول عن نجاح الفرد،
لكن القيادة التي ساعدت الفرد على النجاح بتهيئة بعض الشروط المساعدة على ذلك لم تستطع في كثير من الحالات تقديم مساعدة كافية على مستوى العمل الجماعي: عمل الفرق.
أين تكمن المشكلة؟ لماذا لا ينجح التخطيط على المستوى الكلي؟ ولماذا لم نعمل على إعداد الفرد نفسه للعمل الجماعي ونوفر له شروط المشاركة في النجاح الجماعي؟
هل هي مشكلة تربوية؟ لقد استطاعت الأسرة المشاركة في نجاح ابنها، واستطاعت المشاركة في تحفيزه على النجاح وساهمت في بناء دافعيته، لماذا لا تقدم مردودا مماثلا على مستوى النجاح الجماعي؟
ما هي واجباتها هنا بالضبط؟ وهل تجد التقنيات الملائمة للقيام بمثل هذا الدور؟ الأمر نفسه يطرح بالنسبة للمدرسة، هي تنتج طلابا ناجحين لكنها لا تعد فرقا منسجمة قادرة على الإنجاز الجماعي، وكذلك الجامعة.
كم عدد الجامعات العربية التي تفتخر بفرق بحث في مجالات تخصص دقيقة؟ وفي مجال خاص أو أكثر من مجالات العلم والتكنولوجيا؟
هل هناك مكتبة جامعية أو وطنية أو وزارة تعليم عالي عربية قامت على سبيل المثال بترجمة كل كتب الاختصاص في الطب أو الفيزياء أو علوم الفضاء أو الميكانيك إلى اللغة العربية؟
هناك أعمال ومشروعات تمهد لنشوء جيل جديد وتعبد الطريق لقيام جامعة جديدة عربية اللسان في المجالات العلمية والتقنية.
وهذه المشروعات لها مجال واحد هو اللغة العربية. لا تكمن مشكلات اللغة العربية في أصول اللغة السامية أو الشرقية وجذورها التاريخية، ولا في معاجمها القديمة الممتازة،
هذه منجزات الأسلاف ويحق لهم أن يفخروا بها، لكنها لا تفيد لغة اليوم وعربية اليوم التي تحتاج إلى تغطية كل اختصاصات العلوم والمعارف العصرية، كميا ونوعيا.
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟ تكمن مشكلة السياسة العربية في العقل السياسي الذي لا يرى السياسة في العمل المستقبلي، ويكتفي بتسيير الخلاف اليومي العربي، ويبني استراتيجياته على تكتيكات محدودة تمليها المصالح الضيقة لبعض الأقطار والبلدان،
قد يتعلق الأمر بأنبوب غاز هنا، أو بجماعة دينية هناك، أوبدوافع الغيرة والزعامة، أوبصراع على النفوذ تحت وصاية من الوصايات المتنافسة على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وسوق نفطية تعيد البحث كل مرة عن التوازن بين العرض والطلب.
لكن الإنسان الجديد الذي استطاع أن يستفيد من التكوين العلمي في أرقى الجامعات العالمية، مازال يلجأ إلى عمليات ونماذج تفكير مماثلة لإنسان عصر الانحطاط والضعف الذي فقد معالم طريق حضارته، وتاه .
لقد سئمنا كعرب من الكتابة عن أحداث بلا معنى، وعن سياسات لا تقدم في مصير بلداننا ولا تؤخر، ولا تفيد الإنسان العربي في تغيير تفكيره،
وزاد الطين بلة أن الغرب وهو يصدر لنا ثقافته الحداثية وأفكاره المتنورة عن الديمقراطية يصدر لنا إعادة إنتاج لكليشيهات ثقافتنا القديمة، ثقافة عصر التشظي والانقسام “التتري المغولي” الذي سبق عصر الحروب الصليبية الاستنزافي، وهو لا يمكن أن يرغمنا على تحسين نوعية وأداء جامعاتنا بالقوة أو مدارسنا، ولن يتدخل لتغيير تفكيرنا.
كل هذه الشؤون هي شؤون عربية ذاتية خالصة، وهي من مسؤولية حكامنا الذين يستطيعون إذا ما رغبوا أن يحدثوا الوثبة المطلوبة بتوجيه النخبة نحو إعادة بناء العلوم العربية القديمة إلى جانب منظومات العلوم والتكنولوجيا الجديدة التي نستقدمها من الغرب،
إنه عمل اقتصادي- ثقافي ضخم لبناء المهن والصنائع والبنيات القاعدية وإعداد الجامعات لرسالة النهوض العملي بالأمة في اليوم والساعة.
ليس علينا الدخول في حروب مع الغير أو المنازعة من أجل المصالح القطرية وحدها، علينا أن نتجه نحو المستقبل بكل طاقاتنا، ولن يتأتى لنا ذلك بأكمله أو في جزء منه إلا بتصحيح سياساتنا الشعبوية، والعودة إلى بناء المدرسة والجامعة ومراكز البحث، وبناء دور الثقافة والمكتبات، والمساجد والمراكز الثقافية.
لقد شيدنا البنايات وبقي علينا بناء الوظيفة الفعلية وتحقيق التأثير الصحيح، وتفعيل ما أنجزناه على طول السنين من وحدات المشروع العربي الأول مشروع النهضة الشاملة الذي يحتاج إلى تفعيل عملية تربية تنموية اقتصادية جديدة تشارك فيها الأسرة والمدرسة والبلدية والدولة بمصالحها الإدارية والأمنية،
عملية تربوية تبني شارعا جديدا مهذبا ونظيفا، ولغة عربية مندمجة في العلم و منفتحة على كل لغة نافعة.
فالمطلوب اليوم من العربي السيطرة على العلوم والمعارف فهما، وقراءة كل ما يكتبه العالم من جديد، واستيعاب كل ما ينفع منه.
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟ إن الاستثمار في الإنسان مقولة نعيد ترديدها منذ قرنين، وكل استثمار صحيح ومنتج في البشر هو استثمار في الوقت، وهو أكثر ثروة نقوم بإهدارها في السجال والمناكفة بين الهيئات الرسمية، كما بين الأفراد. بينما يعمل الناس خارج العالم العربي ليلا ونهارا.
إن العدو العملي على الأرض لكل إنسان وكل حكومة هو السلوكيات السلبية مثل البطالة، وما يترتب عن الفراغ أو القعود عن العمل خصوصا عندما يتطور إلى عادة مرضية، والإصلاح الأخلاقي وإصلاح الوعي الديني، والدعوات العلمانية والليبرالية تفقد كلها معناها بدون فرض العمل كخلق وحيد للإنسان، كخلق أول وأخير.
فالعمل هو الخطوة الأولى نحو النجاح و التفوق الذي يمر عبر تثمين المهارة، ومراكمة الخبرة، وينشأ عنه التوق الجارف إلى منافسة الآخرين، وهذه الأخلاق الإيجابية والصفات تهجر البطال والمتقاعس وليس من السهل عليه إعادة اكتسابها.
لهذا السبب وغيره يصبح من المطالب المهمة والحيوية بالنسبة لكل الحكومات العربية بناء سياسة وطنية للعمل، سياسة لا تكتفي بجعل العمل ممكنا بل بفرضه على الفرد العربي الذي يقضي وقتا كبيرا في الكلام ويبحث دائما عن الاستراحة والعطلة ببناء عقلية عملية تستند إلى القانون.
مسؤولية تصميم مشروع مستقبل للعرب؟ على العرب اليوم الاندماج في تجربة جديدة للنهوض، والقيام من حال الشلل والاستسلام للظواهر والمظاهر السلبية لحياتنا المعاصرة، هل الفقر يعوق الشعوب الكبيرة والكثيرة العدد عن العمل، هل حقا لا يمكن إيجاد وتنفيذ سياسة للعمل في بلد مثل مصر أو الجزائر أو المغرب، وهل وجود المال يغني عن مثل هذه السياسة.
لقد وجدت الوفرة المالية ولم توجد معها منظومة عمل فعالة، لأن صاحب القرار لم يقم بتصميم مثل هذه السياسة في بعض البلدان، وفي بلدان أخرى صممت سياسات بنت البلدان ووفرت العمل وأوجدت الفرص الصغيرة والكبيرة.
لا ينبغي أن نخوض مرة أخرى تجربة تنظير تقول الكثير وقد لا توفق إلى عمل القليل.
لكن تجربة حقيقية للنهوض لا تستوجب الثراء المالي كشرط وحيد أو كشرط لا غنى عنه، ويكفي التذكير أن في عالمنا العربي نماذج للنجاح والتفوق وخلق بيئة للعمل والنجاح لا تحتاج منا إلى دعاية.
د. محمد الطيب قويدري
كاتب جزائري