بسم الله الرحمن الرحيم
كلمات إلى أمي : كلمات كتبتها بعد مرور أيام على وفاة الوالدة رحمها الله في 10 سبتمبر 2015
كلمات إلى أمي
جاء الخميس الذي كأنه يحل بيننا لأول الدهر، ونزلت الرسل لتتوفى أمي دون أن نراهم، وحلت السكينة مخترقة دموع المحيطين بامرأة تحتضر،
كانت آخر كلماتها قبل أن تنزل درج الغيبوبة اسمي، ثم انقطع الاتصال بنا، وبقي الوعي ماثلا،
رتلت حبا بها سورة الأنبياء، ثم سورة يس، ثم ص، ثم فاطر، ثم طه، ثم أعدت ترتيل سورة الأنبياء وفي أواسطها استكانت أمي،
وبدا على الجسد الضئيل المنهك الهدوء، كانت السيدة فطوم التي رافقها القرآن منذ الطفولة قد أسلمت روحها لمن جاء لها بالأمن،
وزغردت النسوة على عادتنا العائلية حين يرحل من يحفظ كتاب الله زغرودة تنضح بالدموع.
بكت القلوب، ودمعت العيون، وقلنا كل ما يرضي ربنا، حبا بالحبيبة التي استأثر بها القدر، ورفعت أكف الضراعة،
وبدا اليوم طويلا لا آخر له إلا في زمن مما لا نعلم، وكون مما لا يمكن أن نحاول إدراكه، …
بدأت أمي رحلة لن أكون فيها رفيقها إلا بأمر غير أمري ورغبة غير رغبتي.
ورددت : إنّا لله وإنا إليه راجعون.
تلكم أمي التي كنت وحيدها من الذكور…وكان سبيل الأنس بيني وبينها أنها كانت أيضا وحيدة أمها وأبيها،
حين رحلت وأنا على ركبتي أتلو لها سورة الأنبياء،
كنت أختلس نظرات إلى عينيها المغمضتين لعلي أستطلع بعض الغيب الذي يترصد لحظاتها الأخيرة في دنيا الناس قبل أن تتوفاها رسل العزيز الرحيم.
عندها تذكرت أنني لم أستطع وأنا في كنفها ليلي ونهاري أن أميز لون عينيها بوضوح لأنها كانت امرأة حيية لا تكاد ترفع عينيها في أحد،
ذاك كان شعارها، وهي التي لم ترفع صوتها في وجه زوجها، الذي قضت معه كل حياتها.
ولو بأن تطلب أو تطالب، لأنها اكتفت برضا النفس، وراحة القلب في حضن رجل صادق لم يلب كل أمانيها، لكنها كانت على يقين من بذله فوق ما تسمح به الطاقة، وما يسع الوسع،
لقد غمرها الوالد بحنانه، وحين غادرها منذ 34 عاما رثته بشعر لا ينسى .
كانت إلى أن كف بصرها تمسك المصحف غالب يومها، وهي الحافظة سليلة سلسلة الحفاظ ، حباها البارئ بأصول جرى عبرها القرآن العظيم مجرى الدم بين الذكور والإناث على استثناء في الزمان والناس،
ولم يكن بصرها قويا إلى حد أن تجحظ عينها فيرى الرائي شكلها ولونها، ثم حين حسر البصر وفعل السن، كانت بصيرتها تكبر، وصبرها يعلو، ويقينها يملأ على من حولها الدنيا برا وسلاما.
نشهد لها بين يدي الله أنها كانت صابرة شاكرة ذاكرة، برت والديها، وبرت أولادها وحفدتها، و كانت مثالا لا يضاهى للزوجة المطيعة،
أحسنت إلى من تربص بها، وألقت على الدنيا من رهيف حسها ظلالا وارفة، كانت حفية بمن يزورها، مهمومة بمن غاب عنها، تعطي على قلة يد، وتبذل في الغيب، وترحم الصغير والكبير.
أورثها جدها العائد من دمشق بعد هجرة والده سي بن عبد القادر، والعائلة إليها، إثر نكبة الزمالة الأليمة ظُرف أهل الشام، وحسن تربيتهم،
وهو الذي جلب معه وإخوته تقاليد التلاوة بالأحكام، كما أورثها محفوظه من عيون الشعر العربي التي لم نعلم أن ذاكرتها تحفل بها متقنة الحفظ والأداء إلا بعد أن جاوزت من العمر الثمانين.
لقد كان التواضع سمة حياتها، وكان الخجل والأدب يمنعانها من المفاخرة بما ملكت من عيون تراث الأمة، كذلك كانت، ولم يكن التباهي من جبلتها.
رحلت أمي، لكنها لن تغيب أبدا ما بقيت رحلة العمر، فهي في كل ما تحمله دمائي من قدرة على النبض.
سيتغير لون الزهور، وسيتبدل ريح الثرى و سيجعل نزف المطر أماسينا أكثر رمادية من لون القمر، وسأفتح عيني يا أمي الحبيبة على رائحتك الزكية كل يوم،
وحيثما كنتُ ستبقين إلى يميني، وداخل قلبي تؤنسين وحشتي، وستغرد أصوات ضحكاتك النادرة الخجولة بين عيني.
أنت قرآني الذي سينتفل بيننا مع الفجر، وأنت صلتي بالله، وأنت كل الكون الذي لن أبلغ يوما غايته ولن أحيط بمنتهاه،
فامسحي وجهي بأحلامك، وزريني في البكور، وفي السَّحَر، فأنا عبد إحسانك الذي لا يضاهى، وسأظل حتى نلتقي رهين ذكريات صوتك ورائحتك وحضورك.
ابنك الذي يحبك
محمد الطيب قويدري