أولاد نايل من الرواية إلى التدوين
تدوين التاريخ المحلي: منذ أيام توفي أحد أساتذة التاريخ المرموقين في الجزائر، الدكتور محمد العربي الزبيري تغمده الله بواسع رحمته، قبل ذلك بسنوات كنا قد ودعنا عمدة المؤرخين الجزائريين وشيخهم الفاضل أبو القاسم سعد الله، وغادرنا بعد طول عمرٍوصالح أعمالٍ قبل ذلك الشيخ الجليل عبد الرحمن الجيلالي.
كلهم جعل من تدوين تاريخ الجزائر همه الأول الذي انشغل به، وبذل فيه سنين عمره، واستثمر فيه قطاف طاقته وجهده، هؤلاء و غيرهم من العاملين في التاريخ، ممن سبق إلى الفضل كابن قنفذ القسنطيني من القدامى، وأحمد توفيق المدني، والوزير الباحث مولود قاسم كان لهم فضلهم وسبقهم المحمود كل في الحظ الذي اختص به.
ولا بد لمن اطلع على تراث المسلمين الثقافي عبر العالم، أن يلاحظ ما كان للتاريخ من مكانة، وما كان لفعل التأريخ بصورة مخصوصة من دور ووظيفة في توجيه السياسة المدنية، وتغيير الحكم، وما أداه المؤرخون من عمل على صياغة جوانب الثقافة الإسلامية المختلفة ووصف مكوناتها، وتوجيه النقد إليها من خلال سير الرجال وأخبارهم وتمحيص الأحداث التي صنعوها، وصنعتهم.
ولأننا في مدينة الجلفة كنا الاستثناء لمدة طويلة، إذ كانت مدينة الجلفة، وهي عاصمة المنطقة، مدينة حديثة بكل مقومات وجودها عكس المنطقة التي احتلت مكانا أثيرا في كتاب العبر منجز ابن خلدون في التاريخ الذي ظُلمَ ويُظلمُ باختزاله في ملاحظات مُخلة، وأحكام مبتسرة عن الكتاب، وعن منهج صاحبه في كتابته.
لقد كنا الاستثناء لأن مدينتنا أسست بمرسوم أصدره المحتل، ومهره بتوقيعه الإمبراطور نابليون الثالث، وأدى ذلكم إلى تصنيفها كمدينة جديدة مخصصة كليا للمعمرين الأوروبيين، وللجنود الفرنسيين الذين قاموا ببناء البرج كمعلم أول فيها، فرسخ في أذهان الكثيرين أنها مدينة لا جذور لها في الأرض التي هي جزء منها.
والواقع أن المؤسس الأول للمدينة قبل حلول المعمرين بها كان سي الشريف بن الاحرش الذي بنى زاويته المعروفة في وسط المدينة على قطعة أرض تبرع له بها ملاكها من “أولاد سليم” الذين أسسوا عين زينة من قديم، ومازالوا يسكنونها إلى اليوم.
ومما لا يخفى على أحد أن مسعى هؤلاء القوم، وهم فرقة من عرش أولاد سي أحمد، جرى على هدي الأسلاف، و مجرى العادة التي رسخت في نفوسهم كما سرت أيضا في غيرهم من سكان المنطقة.
التنازل للخليفة سي الشريف عن قطعة الأرض وسط المدينة ليس له اعتبار آخر غير اعتبار التبرك بالقرآن والعلم، والرغبة الصادقة في أن تكون الزاوية الجديدة لتلميذ الشيخ المختار زعيمهم الروحي، مفتاحا يجلب الخير لأولادهم وأحفادهم من بعدهم.
لأن الزوايا كانت في ذلك الوقت، وما زال كثير منها اليوم، مدرسة لتعليم الطلبة القرآن والعلم الشرعي، ومنطلقا للجهاد وبيتا للتكافل الاجتماعي، ومأوى للمساكين وعابري السبيل، ودارا للإطعام، يطعم فيها عامة الناس بلا تمييز أو مفاضلة فيما بين غني وفقير، أو بين شريف ووضيع.
بالرغم من وجود جيل متعلم في معظم أنحاء المنطقة لم يتناول أحد من أبنائها أخبارها وأحداثها بالتدوين أو الدراسة، وكان أول من اطلعنا على ما أدلى به في ذلك، الرحالة والفنانون الفرنسيون الذين جالوا بينها، وهم في طريقهم إلى الصحراء التي فتنتهم بسحرها.
من هؤلاء فرومونتان ودرمنغهايم، وبييس، وغيرهم، قبل أن ينبري فريق من آباء الكنيسة يقودهم القس لوتييلو لجمع المادة التاريخية التي ستصبح فيما بعد مصدرا مهما لكل من ينتوي كتابة تاريخ المنطقة، وتاريخ مدينة الجلفة.
قام القس فرانسوا دو فيلاري بتنظيم تلك المادة وحولها إلى كتاب قيم أضاف له دراسة مهمة للجوانب الجيولوجية والبيئية، فضلا عن محاولته العودة إلى المدونة الأم لكل تاريخ المغرب الأوسط، ونعني بذلك كتاب تاريخ ابن خلدون الموسوم “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان“.
لكن الترجمة التي اعتمد عليها كانت قد اختصرت الكتاب، وكان ذلك على حساب القسم الأكبر من مادته الضخمة، ومن ضمنها المادة التي هي مادة تاريخ المنطقة الوسطى من الجزائر.
لسنين طويلة لم يكن أهل الجلفة يملكون كتابا عن مدينتهم، ولا عن اجتماعهم البدوي السابق على تأسيسها في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، ولا حتى عن مدنهم وقراهم القديمة التي أسسوها في الأزمنة الغابرة، مثل قرية قمرة “بالجيم المشددة” التي أسسها سكانها البربر، قرب عمورة.
إلى جانب قمرة القديمة، كانت هناك بلدتان هما دمد، وزكار، اللتين كان بهما جنود رومان من أصل سوري، تركوا لمصيرهم، بعد زوال الحكم الروماني للبلاد.
انضم بعض هؤلاء إلى سكان القرية المذكورة، وبقيت بقية منهم في منطقة زكار، قبل أن يقوموا بتأسيس مدينة مسعد، ومن المعروف أن الجيش الروماني كانت تركيبته تتألف بصورة أساسية من سكان المستعمرات في الإمبراطورية المترامية الأطراف.
فيما يخص العمل الذي قمت به في هذا المجال، لا بد لي من التنويه أن العهد بالتفكيرفيه يرجع بي إلى أيام الطفولة.
فقد عرفت الجلفة حدثا مهما تمثل بزيارة المؤرخ التونسي المعروف عثمان الكعاك، الذي ألقى كلمة أو محاضرة بقاعة سينما الكواكب القديمة وهي قاعة قديمة جرت إزالتها بسبب ضيقها، في اللقاء الذي جمعه بأهل الجلفة.
وقد رأينا فيه كأطفال حدثا عظيما، وفرصة نادرة للقاء مؤرخ من ذوي التكوين الأكاديمي العالي، ومن النافل القول إن هذا الحدث ترك في نفسي ونفوس أمثالي أثرا لا يمكن محوه، واستفز في سكانها ومثقفيها نشاطا عقليا بالغ الأثر.
ولأن الانتماء إلى الأشراف الأدارسة كان معطى مهيمنا على الخطاب الشعبي اليومي، وكان انتساب سيدي نايل، وسيدي عبد العزيز الحاج، وسيدي بوزيد، وسيدي يونس إلى هذا النسب وهم من الآباء المؤسسين للاجتماع القبلي في منطقة الوسط الجنوبي للقطر الجزائري من المسلمات التي لم يكن أحد من النسابة أو أهل الفضل يجادل في شأنها.
فقد كان حضور مؤرخ مشهور فرصة لا تعوض لاستجلاء الحقائق، والتثبت من موثوقية إرث وتاريخ تمت المحافظة عليهما بأعلى مشاعر النخوة والاعتزاز.
كان هاجس المثقفين من أساتذة المدينة هو الحصول من هذا العَلَم البارز في علم التاريخ على تزكية لمعلوماتهم وعلى توثيق ذي طابع رسمي لهذا النسب، الذي كانت له عند العرب والمسلمين على مر التاريخ قيمة سياسية عالية.
كانت المفاجأة مدوية للبعض، عندما أجاب الرجل ببساطة، ووضوح ليست فيه أدنى مواربة أن بني نايل هم كما يعرفهم “عرب من بني هلال” و نسب الخبر عنهم إلى ابن خلدون الذي ذكرهم في تاريخه الكبير.
أذكر الانطباعات التي تداولها الناس وهم يروون ما أتى به المؤرخ، وأن كثيرا منهم لم يكن راضيا عما سمع من حديثه، حتى إن البعض لم يتردد في إنكار صحة ذلك الكلام عليه.
مضى على الحادثة وقت طويل، قبل أن تداخلني فكرة الكتابة عن تاريخ هذا الجزء الذي يقع من خريطة القطر الجزائري موقع القلب، كانت أولى الخطوات التفكير في تعريب محتويات كتاب “قرون السهوب” كما هي ترجمته الحرفية من الفرنسية أو “قرون من تاريخ السهوب” و” السهوب عبر القرون” كما توحي به مضامينه، لمؤلفه القس دوفيلاري المعروف باسم “عبد الرحمن” كما سمى نفسه.
كنت قد وطنت نفسي على الاستعداد للعمل على مشروع تأريخ موضوعي منصف للحقيقة العلمية، ولكنني كنت من جهة أخرى على إدراك لا يداخله شك بأن طلب الموضوعية في القضايا التي تخالطها العواطف والأهواء هو طلب تقف في طريقه صعوبات لا حصر لها، بعضها موضوعي، وبعضها الآخر ذاتي يرتبط بشروط التفاعل مع المحيط ماضيا وحاضرا.
بعدما استكملت الاطلاع على مادة كتاب دوفيلاري عمدت إلى مقابلتها لمصادرها الأصلية، لا سيما معلومات الرواية الشفهية لفريق الأب لوتييلو، ومعلومات ابن خلدون التي استقى بعضها بنفسه من شيوخ كل قوم ورؤسائهم، وتلقى بعضها من النسابة في عصره، ونقل البعض الآخر عمن سبقه ممن دونوا أخبار البلاد والعباد.
لكن اعتماد دوفيلاري على ترجمة فرنسية مختصرة لتاريخ ابن خلدون دفعني إلى قراءة نص المؤرخ من مصدره الأم باللغة العربية، قرأت المجلد السادس منه خاصة مرات عديدة، طلبا لفهم التفاصيل المبثوثة في مباحثه، متتبعا النظام الذي ارتضاه لتسلسل الأحداث.
ومن النافل القول إن تسلسل المباحث والمعلومات المدرجة بها، لم يوضع بطريقة تراعي انسجام الموضوع الجزئي الذي نبحث عن جمع شتاته من هذا العمل الضخم.
إن الباحث المعاصر قد يتساءل عن ماهية الشاغل الإبستيمولوجي عند ابن خلدون، هل كان التساؤل، أم كان القلق حول ماهية أسباب هذا الانتشارغير المنتظم للقبائل المتنقلة على مساحة واسعة تمتد من العراق إلى الجزائر مرورا بمصر باعتبارها منطقة عبور بين المشرق والمغرب ذهابا وإيابا.
ربما يبدو أن المؤرخ أغفل تقفي أثر المنطق الداخلي الذي يوجه تجمعات البدو الرحل، أو كأن تتبع حركة القبائل شبه الدائمه لديه، وتغييرها مكان إقامتها خصوصا عبر المغرب الأوسط، هو ما جعله يركزاهتمامه على استقراء الدوافع أو الأشكال التي تقف وراء تغيير الولاء في الصراع السياسي والعسكري لهذه القبائل.
لقد كانت كثرة النزاعات، وعدم انقطاع الحروب الظاهرة الغالبة على تسلسل السرد التاريخي في الكتاب، لكن هل كانت هذه العلاقات الاجتماعية التي تشير إلى تمزقات عميقة في نسيج المجتمعات المحلية هي وحدها العوامل التي تدفع التركيبات السكانية إلى الاستقرار أو إلى عدم الاستقرار ضمن محيط مضطرب.
ومع ذلك فإن الوضع السياسي الانتقالي بين الاستقرار والاضطراب، الذي عايشته تلك القبائل والأقوام والشعوب في الزمان مثلما كان الحال فيما يخص المكان، سيبدو وكأنه الأساس المتحرك الذي بنيت عليه دول المغرب الكبير في العصر الحديث، قبل مرور الاستعمار الأجنبي بالمنطقة الذي استثمر تلك الأوضاع واستفاد منها في سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
.
../.. يتبع