مقال سبق نشره في موقع “أحباب الجلفة” تحت عنوان
جزائر الظل وجزائر الواجهة
وراء الجزائر التي يتحدث عنها الإعلام، ولا يشتم منها سوى رائحة الفساد، والانتحار، وسوء التسيير، والاختلالات البنيوية، وهبوط أسعار البترول…إلخ.
هناك جزائر أخرى تنضح بالأعمال العظيمة: أعمال الخير، وخدمة الآخر في صمت:
بينما البعض يسهر على معالجة أمراض الكبير والصغير، وجلب السلع لأسواق الشعب البسيط الطيب، وتنظيف الشوارع، ورفع النفايات، وحراسة الطرقات الطويلة والبعيدة، الرئيسية والفرعية، هناك من يقفون للحراسة والرقابة على مداخل المدن تحت الصقيع والريح، وتحت المطر والثلج وفي أوقات الصوم والحر.
هناك توجد جزائر الخير هذه التي تنتسب إلى فضائل عديدة مسكوت عنها في غفلة المصالح وسباقات المتلهفين.
وبينما يلهث هواة الجري وراء المال دونما نظر لمصادره و رائحته: تستمر الفضائل في النمو والارتقاء، فضائل استحقها بلا منازع رجال الحماية المدنية الذين وقفوا في عز عشرية الأزمة وفي لياليها وأيامها الدموية، لم يطلبوا منا الشكر ، و لا انتظروا من أحد التكريم أو العرفان.
وعندما كان “الهُزِّيَّة” يغلقون عليهم أبوابهم من الساعة الخامسة ولا يفتحون الباب لأحد بعد المغرب- كان هؤلاء الشباب بعفوية وطيبة ينقلون الحوامل من البيوت إلى العيادات والمستشفيات للولادة في ظل حظر التجول، بلا مرافقة أمنية أو حماية في معظم الأحيان.
كانوا، وما زالوا يهبون لنجدة المتهورين في الطرقات، وأيضا لنجدة ضحاياهم من أرباب الأسر المسافرين بحكم الضرورة. ينقلون الجرحى منهم والمصابين في حوادث مرور قاتلة في كل الأوقات، وعبر مختلف الأماكن المزدحمة منها والنائية على السواء،
بعض هؤلاء أصيب، والبعض الآخر لم تصمد نفسيته لهول الفضائع التي تتالت عليه، وقساوة مناظر الأشلاء التي تفسد عليه منامه في أسحار ليالي الشتاء الطويلة ، بعد قضاء أوقات شاقة.
جزائر الخير هي أيضا تلك التي تسبق شروق الشمس عندما يكون عمال النظافة قد خرجوا لأداء مهامهم في الليل لنقل أطنان مما نتركه على الأرصفة، ثم يخرجون مع الصباح لاستدراك ما تكاسل الكسالى منا ونثروه في غير وقت وفي غير انضباط والتزام بقواعد السلوك المدني البسيط.
نأتي نحن، ونستيقظ صباح كل يوم لنجد الشوارع والأرصفة نظيفة بعد أن قام حراس ظلام الليالي الباردة بما عليهم من واجب مقابل أجور لا تحفظ عليهم في كثير من الأحيان كرامة أسرهم.
لا نتذكر أولئك الشباب والمسنين الذين يعملون في كثير من تلك الظروف بلا حماية أو وقاية من أخطار العدوى والتلوث، وحتى لو أرادوا اتخاذ احتياطات تضمن من أجل أولادهم صحتهم، وصحتهم هي في الواقع رأس مالهم الوحيد وضمانتهم ضد الأمراض المزمنة التي كثيرا ما توقع بالبعض منهم من حين لآخر؛ فإنهم بقدرتهم الشرائية شبه الميتة لا يستطيعون أن يقفوا مع بقية الشعب على مستوى واحد.
لا هم ولا نحن نتذكر أن خدمتهم هذه لنا وللمدينة لا تقدر بثمن في سلم معايير تثمين الحياة البشرية الكريمة.
كم عدد الحمالين الذين يحملون كل يوم لآلاف الناس من الزبائن هذه السلعة أو تلك نظير مقابل زهيد، وكم عدد النساء الأرامل اللواتي ينظفن الإدارات العمومية التي يتوافد عليها آلاف المواطنين لحاجات ضرورية أو ملفات أجبروا على استخراج وثائقها، وكم عدد القيمين على المساجد الذين يتعهدون بيوت الله طيلة اليوم ويؤدون مهمات الموظفين الذين يكتفي بعضهم برعاية شؤون المرتب، وربما إدارة خلافاتهم حول بعض من مكسب.
كم عدد الموظفين والمسؤولين هنا وهناك الذين لا يحصلون على فرصة لرؤية أولادهم واللعب مع صبيانهم وفتياتهم بسبب الانشغال الدائم في تحضير ملفات وأعمال ينبغي تجهيزها لتكون أمام المسؤولين الأعلى منهم رتبة في أوقات قياسية اتقاء لعتاب في غير محله، أو توبيخ حاد، أو تقريع بلا حدود.
كم عدد الصغار والكبار الذين يزدهر بهم المجتمع وتطمئن لهم القلوب والأفئدة، وهم ينشرون بأفعال لا يتحدثون عنها، ولا ينتبهون إلى عدد مرات تكرارها كل يوم وربما كل ساعة وهم يقدمون بها خدمة لهذا أو ذاك في الدكان وفي الموقف وفي الساحة وفي المقهى وفي الفندق وفي الكتاب وفي المدرسة؟
وراء الجزائر التي تتسابق الجرائد والقنوات في إحصاء وفضح عيوبها وعيوب أهلها وفضائحهم وما ستر الله من عوراتهم وما صبروا عليه من مصائبهم، وراء كل هذا هناك جزائر عادية بسيطة تعيش بمودة ورحمة وتعيش على القليل وتؤمن بالمستقبل وتصدق المسؤول عندما يتحدث فيصدق أو يكذب أو يمثل، وتداوي جراح الناس بدفع بعضهم بعضا حتى لا تهدم صوامع وبيع ومساجد، وحتى لا يبقى غريب مريضا في مستشفى بلا زيارة وعيادة ومواساة،
هذه هي الجزائر التي تفرح بالقليل، وتقنع بالأمل، وتهزأ بالفساد وأهله، لأن أهلها لا يعطون الدنيا قيمة أكبر من التي تستحقها، جزائر يتطوع بعض أبنائها لإطعام الطيور، والبعض الآخر لحلق ذقون مرضى أقسام الأمراض المعدية، ويتبرع البعض الآخر بدمه لمن لا يعرف.
هذه الجزائر هي التي تقوم بالواجب دون أن تطلب عليه مكافأة من أحد، وهي نفسها الجزائر التي يذهب كبارها إلى صناديق الاقتراع في كل استحقاق، وحتى لو وجدوا أنفسهم وحدهم أمام الصناديق، وحتى لو وجدوا صور مرشحين لا يرضونهم، أو مترشحين لا يبالون بالوقاحة وقلة الحياء، فهم يؤدون الواجب، ولا تؤذيهم حماقة غيرهم إذا تلاعب بالصناديق وأفسد العمل.
لأنهم مرتبطون بالصورة الكلية الشاملة التي استشهد من أجلها الشهداء، ولا تعنيهم التفاصيل العابرة، والظروف الطارئة. ولا تعنيهم الأخطاء ولا الخطايا ممن ماتت ضمائرهم، وتلاعبت بهم أوهام الدنيا الفانية، كما يعتقدون في قرارة نفوسهم.
وحاشا أن يكونوا سذجا أو على نياتهم، بل هم فقط يتمثلون قاعدة تركها لهم أسلافهم: إنما الحيلة في ترك الحيل. ووراء كل يوم ينقضي مستقبل وعدهم فيه خير من يعد بلقاء أولئك الأبطال الذين آمنوا بالجزائر، ووهبوها نفوسهم وما يملكون، العربي بن مهيدي، ومصطفى بن بولعيد، وأحمد زبانة، والقائمة لا تقف عند حد…